حدّة تمييز المعنى

إن الخِلافات العلميّة تكتشف على الدوام أنّها اختِلافات بشأن معاني الكلمات

أرثر شوستر

اللغة شيء معقد، تربط بين عالمنا وعالم المعاني حيث أن كل كلمة تشير إلى معنى ما.  وليست الكلمة هي المعنى بذاتها، بل ماتشير إليه. فعندما أقول (الخوف) فإن المعنى الذي أشير إليه هو (شعور من عدم الإرتياح ناتج عن خطر أو تهديد محدق بك) هذا المعنى يمكن أن أشير له بكلمة (خائف) أو (منخرش!) أو (Afraid) أو (Frightened).

يمكن الإشارة إلى معنى واحد بكلمات من مختلف اللهجات واللغات، ويمكن الإشارة إلى المعنى بدون لغة حتى! أحد أشهر لوحات فينسنت فان غوخ هي لوحة الصرخة، عمل فنّي يمكنه إيصال هذا المعنى بدون حرفٍ واحد.

 يمكن أن نشير إلى المعنى بإيماءة، قصيدة، صوت، أو صورة. كل هذه الطرق يمكن استخدامها للإشارة إلى معنى واحد، لكن لا يوجد أكفأ من الكلمة في سرعة الإشارة للمعنى

فنحن كبشر نحتاج إلى الكلمات لنشير ونصف المعاني التي نريدها، هل تتخيل الحياة بلا كلمات؟!

يجعلك هذا الأمر تفكّر دومًا بما يتجاوز الكلمة التي تقال، إلى المعنى الحقيقي الذي تشير إليه. وهنا حقيقة مخيفة، قد يخطأ الشخص الذي أمامك في وصف المعنى الذي يريده! فتكملان الحديث معتقدان أنكما تتحدثان عن الأمر نفسه ولكنه يقصد معنىً آخر. هذا سوء فهمٍ قد نتمكن من حلّه، ولكن ماذا لو اختلط المعنى بينك وبين نفسك؟ أو اختلطت عليك معانٍ واعتقدت أنها معنىً واحد!


القيمة والسعر

لو سألت من حولك ستجد الكثير يعتقد أن قيمة المنتج و سعر المنتج تعنيان الشيء نفسه! من مسافة بعيدة قد يبدوان كذلك، ويبدوا وكأن لهما نفس المعنى. ولكن إن اقتربت وأصبح تمييزك أكثر حدّة، ستكتشف أنهما يعنيان شيئين مختلفين تمامًا. 

ببساطة، السعر ماتدفعه لقاء شيء ما، القيمة هي ماتعتقد أن هذا الشيء يستحق. تخيّل أن شخصًا قرر أن يبيعك سبيكة ذهب في هذه اللحظة بـ ١٠٠ ريال -سبب اختياره لهذا السعر الزهيد غير معلوم بالنسبة لنا- بعيدًا عن ذلك فإن القيمة التي سنحصل عليها (سبيكة ذهب) أعلى بكثير من السعر الذي سندفعه (١٠٠ ريال)! صفقة رابحة!

السعر هو ماتدفعه، القيمة هي ماتحصل عليه

وارن بات

عندما تبدأ برؤية القيمة والسعر كشيئين مختلفين سيساعدك ذلك في اتخاذ قرارات أكثر صحّة، فتترك أشياء يبدوا سعرها زهيدًا للغاية.

كأن يعرض عليك أحدهم بأنه يمكنه تغيير رقم هاتفك الحالي إلى رقم مييز بـ ٥٠ ريال لكن لاقيمة له بالنسبة لك لأنك لاتريد تغيير رقمك! لاقيمة لديك لتغيير رقمك مهما كان السعر قليلًا.

ويجعلك ترى بعض الأمور قيّمة للغاية مهما كان سعرها عاليًا مثل الشهادة الجامعيّة التي تكلفك ٤ سنوات من عمرك ورغم ذلك كثيرين جاهزين لأن يدفعون هذا السعر، لأن قيمة الشهادة الجامعية أكبر من سعرها!


ارتباك المعنى

الحياة مليئة بالمعاني المتقاربة من بعيد، المختلفة كل الإختلاف حين الإقتراب منها، يمكن أن تسمّي هذه الحالة (ارتباك المعنى) عندما تعتقد أن معنيين مختلفين هما معنىً واحد. وهنا بعض ارتباكات المعاني التي يمكن أن تراها حولك:

  • الجديد والناجح: ليس كل تقنيّة، أسلوب، أو فكرة جديدة يعني ذلك أنها فكرة ناجحة. كثير من التقنيات التي ظهرت فجأة اختفت بعد أن أثبتت فشلها. لكننا نميل أحيانًا للخلط دائمًا بين كل جديد ونجاحه المضمون، لأن الجديد ممتع ومثير للدهشة! الميتاڤيرس، الشاشات ثلاثيّة الأبعاد، … الخ 

  • الاستغناء والخسارة: قد تربط بين فكرة الاستغناء عن شيء و الخسارة، في بعض الأحيان الاستغناء يعتبر مكسب. يمكن أن تقيسها من حولك، الاستغناء عن تلك الطاولة القديمة قد تكسبك  مساحة أكبر في منزلك! الاستغناء عن بعض علاقاتك السيئة يكسبك صحّة نفسيّة أفضل، الاستغناء عن بعض ارتباطاك الدوريّة قد يكسبك وقت لتحقيق مكاسب معرفيّة أخرى! قد يكون أحيانًا الإستغناء خسارة! لكنهما لا يعنينان الشيء نفسه دومًا.

  • أن تكون جيدًا وأن تكون محبوبًا: تمر أحيانًا بمنعطفات يكون فيها القرار الجيد لك و لمن حولك غير محبوب البتّة! إنه قرار غير محبوب أن تستغني عن موظف ضعيف الإنتاجيّة، أو أن تخبر صديقك المقرّب أن صوته قبيح عند غناءه، أو أن قصائده سيئة، أن تعاقب ابنك عندما يخطأ! كلها قرارات جيّدة، لكن غير محبوبة وقد تجعلك غير محبوبًا لاتخاذها. قد تجد نفسك تدفعك لتبرير أن القرار المضاد هو القرار السليم ليس لأنه كذلك، ولكن لأنك لا تريد أن تكون غير محبوبًا، هذا الشعور متفهّم، لكن الأهم التمييز بين المعنيين!

  • المهم و العاجل: أحيانًا تحت وطأة أحداث لحظيّة كاتصال من شخص غاضب أو اهتمام بحدث جديد ترى أن ردّة فعلك على هذا الحدث هي عالية الأهميّة، لكنها ليست كذلك. إنها عاجلة نعم، لكنها ليست بالضرورة مهمّة. مايجعلك تشعر بأنها مهمة للغاية هي هرمونات يفرزها دماغك كردات فعليّة بيولوجية، أولويّاتك المهمّة في الحياة يجب أن لاتكون ردّات فعل بيلوجيّة لمحيطك. 

  • أنت و مشاعرك: أنت لا تساوي مشاعرك، أنت أكبر من مشاعرك دائماً. مشاعرك قد يكون سببها الحقيقي سوء جودة نومك، سوء في الطعام الذي تناولته، حادث سيارة كاد أن يحصل لك! المشاعر مؤقتة، أنت وأفكارك ثابتان لفترة أطول. لاتخلط بين ماهيّتك وبين مشاعرك المؤقتة.

هذه ليست كل المعاني المتشابهة المختلفة! ولكن يمكنك أن ترى كيف أن هذا العدد البسيط منها يؤثر في تفاصيل كثيرة في يومك، ماذا لو استطعت دومًا التمييز بين المتشابه من المعاني؟ كيف ستتحسن قدرتك على اتخاذ القرارات؟


حدّة التمييز

قد لا تتمكن أبدًا من حصر كل هذه المعاني المتشابهه! لكن أهم من حصرها هي القدرة على اكتشاف هذا الارتباك، وهذه صفّة أسمّيها (حدّة التمييز). هي أن يكون لديك تمييز حاد بين المتشابهات من المعاني، الكلمات، وردات فعل من حولك.

إن حدّة تمييز عينك للألوان هي ماجعلتك ترى الصورة التي في بداية المقال مكونةً من ثلاثة ألوان متدرجة البرتقالي و الأحمر والأصفر. تخيل لو امتلك عقلك قدرةً تشبه تلك التي تمتلكها عينك، القدرة على رؤية المعنى وتمييزه عن ماشابهه.

قد تكون حدّة التمييز هي صفة في كل العباقرة، المخترعين، القادة الذين غيروا التاريخ. لربما كانت تسمى بأسماء مختلفة كـ نظرة ثاقبة، فراسة، بصيرة، بعد نظر … الخ 

يمكن أن تبدأ من حولك وتستمر في ملاحظة هذه الأنماط المتكررة، أن ترفع رصيدك من الكلمات ومعانيها، أن تخرج بقائمتك الخاصة من المعاني المرتبكة.

يمكن لقدرة مثل هذه أن تزيد من قدرتك على تطوير ذاتك، عملك، تجارتك، مستقبل، حياتك، وحياة من حولك.