مقايضة أن تكون على خطأ.

لا يوجد هنالك مايدعى (اليقين التام)، ولكن هنالك (تأكّد) كافٍ لحياتنا كبشر!

جون ستيوارت مل

قد تظن أن المقايضة الوحيدة التي قمت بها اليوم هي ذهابك للمقهى هذا الصباح، ومقايضتك كوب القهوة بـ١٠ ريالات. ولكن كل ما تقوم به في يومك يحوي مقايضة ما بشكلٍ أو بآخر! فعند ترتيب مكتبتك المنزلية أنت أمام مقايضة؛ إما أن تمضي وقتًا طويلًا في ترتيب الكتب عند وضعها لأول مرة وبالمقابل سوف تمضي وقتًا أقل عند البحث فيها مستقبًلا. أو أن تقوم بوضع الكتب في المكتبة بأسرع وقت ممكن، في مقابل أن تمضي وقتًا أطول عندما تعود لاحقًا وتبحث عن كتابٍ ما!

هذه مقالة عن مقايضةٍ قد لا تبدو ظاهرة للعيان من أول وهلة.


الحل الأمثل والحل العملي

عند بحثك عن منزل جديد فستبدأ بـ:

  • اختيار منطقة للبحث.

  • معايير تقييم للمنزل المناسب.

والمنزل الأفضل هو المنزل الذي يحقق أعلى النقاط في معايير تقييمك.

نظرًيا، يوجد منزل واحد في منطقة بحثك هو المنزل الأفضل -نسّميه الحل الأمثل لمشكلة بحثك عن المنزل- ولنتأكد فعليًا أنه هو الحل الأمثل علينا أن نثبت أنه لا يوجد أي منزل يحقق نقاط أعلى منه ويعني ذلك أن تقوم بزيارة ١٠٠٪ من المنازل داخل نطاق بحثك.

في الحياة الواقعية، إذا قررت أن تجد المنزل الأفضل (الحل الأمثل) ستتطلب هذه العملية وقت طويلًا للغاية، لأن صاحب منزل واحد يمكنه أن يأخرك عن عملية بحثك لأنه غير موجود، وأنت عليك أن تقيّم منزله لتتأكد من أنك زرت١٠٠٪ من المنازل، كل هذا الجهد ستبذله لتتأكد من أن اختيارك هو الحل الأمثل! لذلك في أغلب الأحوال، ستتنازل عن الحل الأمثل مقابل حل مناسب أو حل عملي بحيث تختار المنزل الأفضل بعد بحثٍ لمدة معينة، وقد تكون خلال هذه المدة تمكنت فقط من تغطية 60% من المنازل الموجودة بمنطقة بحثك. وهنا تكون قمت بمقايضة من نوع مختلف، بين اليقين (Certainty) بالوقت (Time). قايضت جزء من يقينك بكون هذا المنزل هو الأفضل على الإطلاق، بمقابل أن تكسب الوقت المتبقي من عملية البحث.


اليقين كعملة مقايضة

أن نقوم بإنجاز أمرٍ ما في وقتٍ أقصر مقابل أن لا نمانع ببعضٍ من عدم اليقين أو احتمالية الخطأ لهي فكرة مميزة. كثير من الخوارزميات التي تعمل في هاتفك لا تعطيك الحل الأمثل (Optimal Solution)، ولكن تعطيك حل مقبول في وقت سريع جدًا. مثلًا: خرائط Google عندما ترسم لك أسرع طريق إلى منزلك فهي ترسم حل مقبول ولكنّه ليس الحل الأمثل؛ فللوصول إلى الحل الأمثل لأسرع طريق إلى منزلك عليه أن يقوم بحساب كل الطرق والمنعطفات الممكنة لمعرفة أن الطريق الذي سيرسمه هو الأسرع على الإطلاق وسيتطلب ذلك وقت كبير جدًا جدًا! لذلك نكتفي بعرض حل مناسب في أسرع مدة ممكنة!


التيسير

بطبيعة الحال نسعى دائًما للحل الأمثل (Optimal Solution) في حياتنا، ولكننا نرضى بحلول بديلة مناسبة يمكننا المضي معها إذا ما كانت تكلفتها معقولة، سأسمي هذا المفهوم جزافًا "التيسير" وهو أن نرضى بحل مناسب تكلفته بسيطة عوضًا عن سعينا للحل الأمثل ذو التكلفة عالية. عند حديثي عن تكلفة البحث عن الحل أعني بذلك الوقت. لأنه نظريًا؛ لا يمكن أن يكون هنالك حد أعلى للثروة التي تمتلكها أو حد أعلى للعلوم التي ستتعلمها، ولكن يوجد حد أعلى لعمرك -والأعمار بيد الله-.

تختفي فكرة تيسير اتخاذ القرار أحيانًا عندما تكون أمام قرار تتخذه، أو رأيًا تطرحه، خوفًا من الخطأ أو أن لا يكون ما تقترحه هو أفضل ما يمكن. وتأخذ الكثير من الوقت والجهد فقط حتى ترفع احتمالية كون هذا القرار هو أمثل الحلول الممكنة. الوصول إلى الحل الأمثل عادةً ما يكون مكلفًا، في بعض الأحيان والقرارات، يكون القرار يستحق هذه التكلفة والوقت لأهميته وتأثيره المحوري على حياتنا. ولكن توجد مواقف كثيرة وصولنا للحل الأمثل فيها لا يستحق التكلفة التي بذلناها للوصول إلى هذا الحل. هنا تأتي أهمية مفهوم التيسير. ففي العديد من القرارات في العمل أو الحياة يساعد التيسير في رفع إنتاجيتنا بشكل كبير. كما أنه في العديد من المجالات يكون العائد من هذا الارتفاع في الإنجاز مع حلول مناسبة أفضل من عائد الوصول لحل أمثل ولكن بإنتاجية أقل.


الحدس

حدسك قد يخبرك أن هذا المطعم سيئ لعدم وجود أي سيارات متوقفة أمامه مع أنك الآن في ساعة ذروة! حدسك هو قاعدة استرشادية يعمل بها عقلك لاتخاذ قرار معين بشكل سريع -دون سبب واضح أحيانًا- بنيتها من خبرات سابقة. لذلك دائمًا ما تُعد نصيحة (اتبع حدسك) نصيحةً سديدة.

يحصل الأمر نفسه في مقر عملك، حدس مديرك يجعله يحكم على أحد زملائك الجدد بأنه غير كفؤ لتصرفٍ قام به، قد تراها مبالغة من مديرك وتتعاطف مع زميلك الجديد، يمضي الوقت وتكتشف صواب حدس مديرك في هذا الشخص ولكنك ترى اعتماده على حدسه مجازفة! مع مضي الوقت في العمل تكتشف أن حدسه كان صائبًا في أغلب الحالات. الحدس هو أيضًا مقايضة لاحتمالية الصواب بسرعة اتخاذ القرار! فأنت لا تتحمل أن تكتشف بعد فوات الأوان أن المطعم الذي ذهبت إليه سيئ أو أن الموظف الذي استعنت به سيئ. لذلك ضرر الاكتشاف المتأخر أكبر من ضرر أن يكون حدسك خاطئًا!


المقايضة بين المخاطرة الآن والمخاطرة مستقبًلا

أحد أوجه المقايضة التي عليك التفكير بها هو أن تقايض بين احتمالية مخاطرة عالية اليوم في مقابل تقليل حصول هذه المخاطرة مستقبلًا. عليك أن تخاطر بأن يسخر الناس منك على المسرح اليوم، قي مقابل ألا يسخرون منك في المستقبل. أو تخاطر بأن يسخر من اقتراحك في مكان عملك اليوم، مقابل ألا يسخرون منك في المستقبل! وأن تخاطر بأن يفشل مشروعك الذي قمت بإنشاءه في عمر الـ 30 ، في مقابل تقليل مخاطر مشروعك الذي ستقوم بتنفيذه في عمر الـ 40.

توجد حقيقة لدى المبرمجين، بأنه إذا قمت بكتابة كود لبرنامج ويوجد به خطأ برمجي (Bug) . لتتمكن من اكتشافه وحله يجب عليك أن تكون أذكى من الشخص الذي قام بكتابته. أن تكتشف أن ما قمت به فعلًا خاطئ يعني أنك أكثر ذكاءً في لحظة اكتشافك للخطأ من لحظة قيامك للفعل، هذا يعني أنك تطورت فيما بين اللحظتين. بالنسبة لي هذا يعني أن مجرد القيام بالفعل -بحد ذاته- ومراجعته لاحقًا يساعدك على النمو والتطور بشكل أكبر من عدم قيامك بأي شيء!