كما كان في أي وقت مضى.

لـ مورجان هاوسل

ترجمـة لمقالة Same As It Ever Was لـ Morgan Housel .

نستغرق وقتا طويلا، في التفكير بما حصل آخر 24 ساعة، ونقضي القليل من الوقت في التفكير بما حدث آخر 6000 عام.

ويل ديرانت

هذه بعض القصص القصيرة عن أشياء لم تتغير في عالم لا يتوقف عن التغيير.

الأشياء التي لا تتغير هي أهم ما يجب علينا التركيز عليه، التغيير يحظى بمعظم الانتباه لأنه مثير ومفاجئ، لكن الأشياء التي تبقى كما هي (مثل سلوك الناس، وتفكيرهم، وكيفية إقناعهم) هي الأساس الحقيقي للتاريخ.

التاريخ لا يعيد نفسه، بل الرجال يفعلون

فولتير

مقولة فولتير " التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الرجال يفعلون" تختصر كل هذا، البشر يكررون أفعالهم منذ آلاف السنين.

دعونا نتحدث عن التنبئ بالمستقبل، التنبئ بالمستقبل صعب. قلّة من يمكنهم التنبؤ به بشكل سليم.

لكن فهم طريقة تفكير البشر أسهل من هذا، وغالبًا مايحقق نفس الغرض.

لأن العالم في 2020 يختلف تمامًا عن العالم في 1920، اختلاف شاسع، إذا إضفنا إلى هذه المقارنة العالم في عام 1920 قبل الميلاد فكأنك تتحدث عن حياة من كوكب آخر.

لكن البشر وطريقة تفكيرهم لم تتغير. مشاعرهم تجاه الخوف، الطمع، الفرص، الفكاهة، الانتساب إلى الجماعة،كل ذلك لم يتغير ولن يتغير حتى بقية حياتنا.

لو قمت عوضًا عن محاولة التنبؤ بالمستقبل، باستغلال كافة قدراتك في تحليل ومعرفة السلوكيات المحدودة التي تتكرر باستمرار في التاريخ وتلعب دورًا محوريًا في الأحداث المفصلة. يمكنك حينها الوصول إلى نتائج شخص لديه القدرة على رؤية المستقبل.

على الرغم من عدم معرفتك بالمستقبل حتى الآن، إلا أنك ستكون أقل عرضة للمفاجئة عند حدوث أي طارئ، ستكون أقل ارتباكًا وتشوشًا عند التفكير بأسباب حدوثه، وأكثر ثقة في معرفتك لطريقة تعامل الناس معه.

هنالك العديد من هذه السلوكيات التي تستحق الانتباه. أود الحديث عن أربعة منها، وسأبدأ حديثي بقصّة عن القنبلة النووية.


#1 : تحصل المخاطر الكبيرة عندما تجتمع الكثير من المخاطر الصغيرة، ولكن الخطر الصغير يسهل تجاهله، لذلك يستخف الناس دائمُا باحتمال حدوث خطر كبير.

قام الاتحاد السوفيتي ببناء قنبلة ذرية أقوى بـ 1500 من تلك التي أسقطت على هيروشيما.

تمت تسميتها بقنبلة القيـصر، كانت أقوى 10 مرات من كافة القنابل التي أسقطت في الحرب العالمية الثانية مجتمعة.

عندما قامت روسيا باختبار القنبلة فإن شعلة النار تمت مشاهدتها من مسافة 960 كـم ، وارتفعت سحابة الانفجار إلى 67 كـم!

كتب المؤرّخ جون لويس جاديس:

الجزيرة التي تم عليها الإختبار سوّيت بالأرض حتى الصخور تمت تسويتها وأصبحت الجزيرة كحلبة تزلج عملاقة. إحدى التقديرات قالت أن عاصفة النار قادرة على ابتلاع ولاية ماريلاند (مساحة تقدر بـ16 ضعف مدينة الرياض).

اخترعت القنبلة الذرية في أواخر الحرب العالمية الثانية. وفي غضون عقد من الزمن، أصبح لدى الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي قنابل قادرة على محو أي أثر للحياة على كوكب الأرض.

لكن هذه القدرات الفتّاكة والمميتة لهذه القنابل أدت إلى ظهور جانب إيجابي غريب: أصبح من غير المرجح أن تستخدمها أي دولة في العالم في معركة حقيقية.

لأنها سترفع سقف المعركة إلى حد كبير، يمكنك أن تمحي عاصمة أعدائك من الخارطة ولكنهم سيقومون بالمثل خلال 60 ثانية. فلم العناء؟

كان جون كندي يقول "لا توجد دولة تريد حربًا تمحي روما من الوجود وتدمّر قرطاجة مرّتين"

في عام 1960 وقعنا في أزمة مختلفة عندما اتجهت البشرية نحو الطريق الآخر. قمنا ببناء قنابل نووية أصغر وأقل فتكًا، أحدها كانت أضعف بـ 650 مرة من تلك التي اسقطت على هيروشيما ولكن يمكنك حملها ورميها بواسطة شخص واحد مثل البازوكا. بُنيت ألغام نووية يمكن حملها في حقيبة الظهر ورؤوس نووية بحجم حذاءك.

هذه الأسلحة الصغيرة أعطت إحساس بأنها "معقولة" إلى حد ما ولها مستوى مخاطرة أقل يمكنك استخدامها دون أن تتسبب في نهاية لهذا الكوكب.

لكن ذلك أدّى إلى نتائج عكسية.

قنابل نووية صغيرة تعني فعليًا احتمالية استخدام أعلى في أرض المعركة، وهذا بالطبع كان الهدف من اختراعها، ولكنها أدت إلى تقليل التبريرات والشروط اللازمة لاستخدامها.

وتغيرت حينها الحال إلى الأسوء.

الخطر يمكن في أن تقوم دولة ما باستخدام قنبلة نووية صغيرة (بقدر معقول) أثناء المعركة، لنبدأ بعدها بحلقة انتقام لا تنتهي حتى تفتح الباب لاستخدام أحد القنابل الكبرى (قنبلة القيصر واخواتها).

لا توجد دولة ستبدأ حربها بقنبلة نووية كبرى، لكن هل ستستخدم أحد القنابل الصغيرة؟ غالبًا. هل يمكن أن تبرر هذه القنبلة الصغيرة الرد بقنبلة أكبر منها؟ بالتأكيـد.

المخاطر الصغيرة ليست بدائل للأخطار الكُبرى، بل هي مسبباتها.

الصواريخ السوفيتية في كوبا خلال أزمة الصواريخ الكوبية كانت أضعف 3000 مرة من قنبلة القيصر. لكن إطلاق صاروخ وحد منها فقط، حسب تصريح متحدث وزارة الدفاع الأمريكية، سيؤدي بنسبة 99٪ لأن يتم استخدام كامل الترسانة النووية الأمريكية للرد.

روبرت اوبنهيمرو فيزيائي ساهم في بناء القنبلة النووية، صعق لما رآه من قوة مدمرة للقنبلة النووية، فقرر المساهمة في تطوير قنابل أصغر لتقليل المخاطر. روبرت اعترف لاحقً بأن هذا القرار كان خاطئً لأنه تسبب برفع احتمالية حدوث هجمات نووية كبيرة.

الأخطار الكُبرى يسهل أن لا تلاحظها لكونها تسلسلًا لأحداث صغيرة، والأحداث الصغيرة يسهل غض النظر عنها. لذلك دائما مايقلل البشر من احتمالية حدوث أخطار كُبرى.

ولقد رأينا هذا يحصل على الدوام مرّة تلو الأخرى.

لم يتوقع أحد في عام 1929 أن يحدث كساد عظيم للاقتصاد الأمريكي، ستضحك إن كنت تعيش في عام 1929 وأخبرك أحدهم بأنه بنهاية هذا العام ستفقد أسواق الأسهم 90% من قيمتها وسترتفع نسبة العطالة لتصل إلى 25٪.

ليس غرورا! لكنه في أواخر عشرينات القرن الماضي كانت هنالك عدة مشكلات. فأسواق الأسهم قد شهدت تضخّم في قيمتها، مضاربات عقارية رفعت قيمتها، وكانت المزارع تشتكي من سوء الصيانة. كل هذا كان واضحًا للعين، موثّقًا ومسجلًا. وتمت مناقشته في عديد من المحافل. لكن ما المشكلة؟ لو قمت بعزل كل مشكلة لوحدها فهي ليس بتلك المشكلة الكبرى، ولا بذلك الخطر الكبير!

كل هذه الأمور لم تكن مشكلة كبيرة حتى حدثت جميعها في الوقت ذاته، وغذّت كل واحدة منها الأخرى حتى تحول الوضع إلى كساد كبير.


أسواق الأسهم سقطت، الأغنياء خسروا ثرواتهم، قاموا بتسريح موظفيهم، الموظفين تخلفوا عن دفع قروضهم، وبتخلفهم يسقط البنك. وعندما يسقط البنك يخسر الناس مدّخراتهم، وعندما يخسر الناس مدّخراتهم يتوقفون عن الإنفاق، وعندما يتوقفون عن الإنفاق تسقط المحلات والأعمال، وعندما تتساقط الأعمال تسقط البنوك كذلك، وعندما تسقط البنوك يخسر الناس مدّخراتهم - وهلمّ جَرا.


الشيء نفسه يحصل اليوم.

الإقتصاد العالمي أُغلق تماماً من مارس وحتى يونيو. أغلق كليةً وحسب! لم يحصل ذلك من قبل. وكأنما تعرضنا لخطر لم نفهمه بعد لأن فرص حدوثه نادرة، وهي مشاكل وتحديات لم يكتب عنها شيء في مناهج الإقتصاد.

لكن فعليًا نحن لم نعترض لخطر نادر الحدوث وفرصة حصوله واحد بالمليار!

دعونا نرى ماحصل

فايروس ينتقل من حيوان إلى إنسان (حصل ذلك مرارًا) وهذا الإنسان يختلط بغيره من البشر (طبيعي)، الوضع يبدو مبهمًا بالبداية (يمكن تفهم ذلك) وبعد ذلك يتم محاول اخفاء انتشار الخبر السيئ (سلوك غير جيد ولكنه يحصل دومًا). بقية الدول تعتقد أنه سيتم احتواء الوضع والأمور تحت السيطرة (مرحلة الإنكار المعتادة)، لم تتصرف هذه الدول بسرعة كافية (بيروقراطية وانعدام القيادة)، لم يستعد أحد لهذا (تفاؤل زائد بعدم حصول هذا السيناريو) وعندها يكون الحل الوحيد إغلاقات شاملة للاقتصادات حول العالم (فعل ماعليك فعله!) .

لا يوجد حدث واحد من هذه الأحداث يعتبر مفاجئًا إذا قمت بعزله لوحده، لكنها مجتمعة تحولت إلى أكبر الأحداث التي عايشناها في حياتنا.

من الجيد أن تتوقع بأن العالم سينهار مرة كل عقد من الزمن، لأن التاريخ يخبرنا بأن هذا مايحصل.

عندما تفكر في الإنهيار تشعر وكأنه نادر الحدوث، لذلك من السهل الاعتقاد بأنه لن يحصل مجدداً.

لكن الانهيارات تحدث دومًا، لأنها في حقيقتها هي أحداث واردة الحدوث تقوم بتغذية بعضها البعض.

هذا ليس وضحًا للعيان. لذلك دائماً ما يُستهان باحتمالية حدوث الأخطار الكبيرة كما هو الحال دومًا.

كما كان في أي وقت مضى.


#2: التفاؤل  وقود الإنجاز، وبدونه سيتوقف الناس. لذلك يولد دومًا عندما تكون حقائق ليست في صالحك والاحتمالات ضدك.

(الحلم الأمريكي) عبارة استخدمت لأول مرة من قبل المؤلف جيمس تروسلو آدمز عام 1931 في كتابه الملحمة الأمريكية

التاريخ مثير للاهتمام، أليس كذلك؟ لأنه من الصعب التفكير في سنة كانت فيها الأحلام محطمة أكثر من عام 1931.

سنة 1931 كان الكساد الكبير في الولايات المتحدة في أوجه.

عندما كتب آدمز "الرجل وحده، بمواهبه التي يمتلكها، وبتعلمه المهارات اللازمة، يمكنه النهوض من طبقة متدنية إلى طبقة أعلى، وبذلك يمكن لعائلته النهوض معه". كان معدل البطالة يقترب من 25% والفروقات بين الطبقات في أعلى مستوياتها في التاريخ الأمريكي.

وحين كتابته لـ "الحلم الأمريكي نحو حياة أفضل، أثرى وأسعد لجميع المواطنين من كل الطبقات" كانت أحداث الشغب بسبب قلة الطعام تعصف بكل أقطار البلاد، بينما يمزق الكساد الولايات قطعاً متناثرة.

وعندما كتب "أن نستمر بالنمو والتطور لأفضل مايمكن لكل واحد منا الوصول إلى، رجالًا ونساءً بدون أي من العوائق التي أوقفت الحضارات من قبلنا" كانت المدارس مغلقة في الوقت التي تشترط بعض الولايات معرفة القراءة والكتابة للتصويت.

في هذه اللحظة من التاريخ الأمريكي كانت فكرة الحلم الأمريكي ميؤوسًا منها ومنفصلة تمامًا عن الواقع الذي يواجه الجميع.

ومع ذلك حصل كتاب آدم على شعبية جارفة. عبارة مليئة بالتفاؤل وُلدت في أحلك لحظات التاريخ الأمريكي أصبحت بين ليلة وضحاها شعارًا لكل عائلة أمريكية.

حقيقة أن واحد بين كل أربعة أمريكين عاطل عن العمل في 1931 لم تفسد فكرة الحلم الأمريكي، سقوط قيمة أسواق الأسهم بـ89% لم يفسدها، طوابير الجائعين الذي ينتظرون الرغيف حول البلاد لم يفسدها كذلك.

في الواقع، قد تكون عبارة الحلم الأمريكي قد اكتسبت شعبيتها بسبب أن الأوضاع كانت سيئة.

ليس عليك أن ترى الحلم الأمريكي كي تؤمن به -شكرًا لله- لأنه في 1931 ليس هنالك شيء لتراه. ماعليك سوى الإيمان بأنه ممكن الحدوث. ومن ثم في لحظات قليلة ستشعر فجأة بتحسن.

عالما النفس لوران ألوي و لاين يڤون إبرامسون كوّنا نظرية قمت بتسميتها بـ الواقعية الكئيبة.

هذه النظرية تقول أن المكتئبين يمتلكون نظرة دقيقة للعالم من حولهم لأنهم واقعيون تجاه خطورة الحياة وهشاشتها.

وعكس هذه الواقعية الكئيبية هو ما أسميه "الجهل المريح" وهوما أصاب أغلبيتنا. ولكن حقيقةً نحن لا نتألم منه، بل العكس، يعطينا شعورًا عظيمًا!

وحقيقة أن هذا الجهل يعطينا شعورًا جيدًا هو الوقود الذي يجعلنا نستيقظ كل صباح ونستمر بالعمل حتى عندما يكون العالم من حولًا فظيعًا بكل ماللكلمة من معنى.

تالي شاروت في كتابها الإنحياز المتفائل، كتبت:

التفائل يحمينا من أن نرى مايخفيه لنا المستقبل من صعوبات وآلام حتميّة، ويحمينا من أن نعتقد أن خياراتنا محدودة نوعًا ما في هذه الحياة. ونتيجة لهذا يقل توترنا وقلقنا، وتتحسن صحتنا الجسدية والنفسية، وينمو لدينا الحماس نحو العمل والإنتاجية. 

لكي نتقدم، علينا أن نكون قادرين على تخيل حياة بديلة للتي نعيشها، ليس أي حياة بديلة، بل حياة أفضل، وعلينا الإيمان بأن من الممكن الوصول لها.

تالي شاروت

السطر الأخير مهم للغاية، نحن نحكي لأنفسنا قصصًا عن إمكانية تقدمنا في الحياة لأنه لو أصبحنا منطقيين تجاه احتمالات الفشل والألم العالية التي تواجهنا، لما تمكنا من الخروج من أسرّتنا صباحًا.

قلة من سيفكر ببدء مشروع تجاري لو كان صادق مع نفسه في احتمالية الفشل العالية التي تواجهه ووعورة الطريق نحو النجاح.

قلة من سيتفائل بالحلم الأمريكي لو نظروا ببرود لإحصائيات توزيع الثروات ونمو دخل العائلات.

قلة سيحاولون هزيمة متوسط أداء أسواق المال.

لا أحد سيفكر بشراء بطاقة اليانصيب.

لكن جميعنا نفعل ذلك، أنا أقوم بذلك أحيانًا.

التفكير في أن الناس يفرطون في التفاؤل تجاه مستقبلهم -حتى لو كانوا متشائمين تجاه مستقبل الآخرين- يمكن رؤيتها عبر التاريخ.

في كتابه أرض الخيال، كورت أندرسون تحدث عن أن الخصلة التي بُنيت عليها أمريكا هي استعدادها ورغبتها في الإيمان بأشياء غير حقيقة.

كل ذلك وُلـد عندما نشأت فكرة العالم الجديد لدى الأوربيين في القرن 16، حينما حكوا لآهاليهم عن أراض شاسعة ومليئة بالأحلام خلف المحيط الأطلسي. لكن حين وصولهم، لم يجدوا سوى مستنقعات الملاريا.

وتتكرر هذه القصة مرارًا، كما حصل عند تأسيس هوليوود، ومايحصل في الحملات الإنتخابية والحشود السياسية، ويحصل مجددً عندما ترى إعلانًا ما.